عنصرية في الدنمارك… مقتل شاب أسود البشرة يثير السجال
عنصرية في الدنمارك... مقتل شاب أسود البشرة يثير السجال
في جزيرة بورنهولم الدنماركية النائية، في بحر البلطيق، أعلنت الشرطة يوم 25 يونيو/ حزيران الماضي مقتل شاب دنماركي – تنزاني في الثامنة والعشرين، وهو ما أثار سجالاً حول العنصرية في البلاد
كان الشاب، الذي يرمز إلى اسمه بحرف “باء”، بناءً على قرار المحكمة، عائداً من عاصمة الدنمارك، كوبنهاغن، فرحاً بتخرجه من كلية الهندسة، يوم 23 يونيو/ حزيران الماضي، وفي نيته أن يحتفل مع أسرته في جزيرة بورنهولم القريبة من السويد، بتحقيق النجاح. وبدلاً من الاحتفال بهذا الإنجاز الفردي الكبير، مع والدته تنزانية الأصل (شرق أفريقيا) ووالده الدنماركي، انتهى به الحال قتيلاً على يد شقيقين، أحدهما نازي. سكتت الصحافة وحاولت الشرطة طويلاً، رفض أيّ دوافع عنصرية وراء الحادثة، ما فجر غضباً من بعض الأطراف المدافعة عن حقوق المهاجرين والأقليات، وسجالاً حول عمق العنصرية في هذا البلد الإسكندنافي.
عد إعلان الشرطة مقتل الشاب “الدنماركي – التنزاني”، مرت أيام تعاملت فيها صحافة البلاد ببرود مع حادثة القتل التي راح ضحيتها “باء” ذو الثامنة والعشرين عاماً، الذي تخرج حديثاً من كلية الهندسة في جامعة “كوبنهاغن” وعاد إلى الجزيرة لزيارة أهله محتفياً بتخرجه. صدمة المجتمع المحلي، حيث قُتل الشاب، لم تجارِها شرطة الدنمارك وصحافتها، خصوصاً بعد الكشف عن القاتلين، وهما شقيقان، الأكبر بينهما (25 عاماً) صديق سابق للمجني عليه، فيما الأصغر (23 عاماً) متعصب نازي نقش على ساقيه وشوماً عدة تشير إلى تعصبه، من قبيل الصليب النازي وشعار “القوة البيضاء”. بقيت الشرطة الدنماركية، بالرغم من غضب أصدقاء القتيل ومعارفه، ومطالبة أصوات دنماركية عدة، سياسية وحقوقية، بالتعامل مع التحقيق في القضية، باعتبارها “جريمة عنصرية”، تصرّ على أنّها “مجرد جريمة قتل بشعة لا تُعرف أسبابها بعد”.
أثارت تصرفات الشرطة شكوكاً كبيرة بين الصحافيين المحليين والمراسلين الأجانب، خلال الأسبوع قبل الماضي، بمن فيهم مراسل صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، الذي سارع إلى الكتابة عن “جريمة عنصرية” فيما تحدثت مكاتب الصحافة الأجنبية عن قرار الشرطة الإبقاء على هوية القاتلين “مخفية وأن يجري التحقيق القضائي خلف أبواب مغلقة بشكل مضاعف (وهو تعبير عن صرامة عدم تسرب أيّ شيء)”، بالإضافة إلى تصنيفها الجريمة على أنّها “من دون دوافع عنصرية”.
جدير بالذكر أنّ مجتمع جزيرة بورنهولم صغير يضم قرى محيطة بمدينته الكبيرة رونا، حيث يعرف الناس تقريباً كلّ شيء عمّن يكون القاطن فيها، خصوصاً أنّ اللغة أو اللكنة السويدية هي السائدة، ما يعني معرفة الناس بمن يسمّونهم “قادمين جدد إلى بورنهولم”.
بعد الجريمة بأسبوع، بدأت – بالرغم من تكتم الشرطة والصحف الدنماركية – تتكشف هوية القاتلين وخلفية أحدهما النازية، وذهبت شهادات العارفين بالطرفين لتكشف عن “تعليقات عنصرية دائمة” كان يطلقها أحد القاتلين، ويشارك بحماسة واستفزاز في تظاهرات وتحركات حزب “تشديد الاتجاه” اليميني المتطرف بزعامة السياسي المثير للجدل، راسموس بالودان، الذي حكم عليه قبل فترة وجيزة بالسجن بسبب العنصرية بالذات، وهو يؤيد أيضاً حركة “وايت باور/ القوة البيضاء” كمجموعة نازية من بين مجموعات العنف القومي المتطرف في دول الشمال الأوروبي.
رفض الشرطة اعتبار القضية عنصرية يقوم أيضاً، بحسب منتقدين، على موقف سياسي يرفض الاعتراف بمشكلة العنصرية القائمة في الدنمارك. وخلال نهاية الأسبوع الماضي، كشفت المعلومات أنّ طريقة قتل الشاب ابن الثامنة والعشرين على أيدي شقيقين عشرينيين كانت بشعة جداً. وقد تسرب من تحقيق الشرطة ما يشير إلى معرفة القتيل بأنّه “قُتل مثلما قتل المواطن الأميركي الأسود جورج فلويد” الذي لقي حتفه على يد شرطي في مدينة مينيابوليس، وأثار مقتله الذي صورته شابة، موجة احتجاجات شعبية حقوقية كبيرة جداً في الولايات المتحدة ما زالت مستمرة حتى اليوم بعنوان “حياة السود مهمة” و”لا أستطيع التنفس”، وهي العبارة التي قالها قبل وفاته بينما كان الشرطي يضغط بركبته على عنق فلويد.
الشاب القتيل “باء” كان محبوباً في الجزيرة، ومهذباً، بشهادة السكان، وقد أثار مقتله غضباً بعد الكشف عن كتابة أحد القاتلين رداً على حملة “حياة السود مهمة” على صفحته في الثاني من يونيو/ حزيران الماضي، أي بعد أسبوع من مقتل فلويد، على موقع “فيسبوك”: “حياة البيض مهمة”، وفقاً لشهادة أصدقاء الطرفين. هذا الغضب دفع البعض إلى زيارة موقع الجريمة في أحد أحراج المنطقة المخصصة لإشعال النار والتقاء الشباب حولها، ليُكتب أنّ “الجريمة عنصرية، وهي مثل قضية قتل جورج فلويد”.
بعد إعلان الشرطة في 25 يونيو/ حزيران الماضي عن الجريمة رسمياً، ظنّ كثيرون أنّها مجرد جريمة كبقية جرائم الخلافات بين متعاطي الكحول والمخدرات. لم تمضِ أيام قليلة حتى بدأت التكهنات، بعد الكشف عن أنّ القتيل أسود البشرة، تنتشر في احتمال أن تكون الجريمة ذات دوافع عنصرية.
بررت الصحافة الدنماركية “برودة تغطيتها” بحسب ما وصفتها حملة “حياة السود مهمة” منتقدة، ومعها بعض معارف القتيل، أنّها “كانت مجرد تكهنات عن كونها جريمة كراهية” كما ذهبت “بوليتيكن”. لكن سرعان ما وصل خبر قتل الشاب الأسود إلى حركة “حياة السود مهمة” لتعقب على الجريمة الأسبوع الماضي بمنشور على “فيسبوك” بعنوان: “أزيحوا ركابكم عن أعناقنا”. وكتبت الناشطة الدنماركية، أمالي هافا، التي يتابعها نحو 100 ألف مستخدم على “إنستغرام” بعد أيام على جريمة القتل: “رجلان أبيضان دنماركيان قتلا بوحشية رجلاً تنزانياً – دنماركياً في بورنهولم، ولا تغطية إعلامية في هذا البلد للجريمة”.
يوم السبت في الرابع من يوليو/ تموز الجاري، بعدما توالت الانتقادات الغاضبة من دنماركيين، بدأت الصحافة تكتب عن “تراجيديا القتل في بورنهولم”، كما ذهبت صحيفة “بيرلنغسكا”. وللمرة الأولى، جاء في عنوان كادر الصحيفة أنّ “أحد القاتلين المفترضين في جريمة بورنهولم عنصري”. وتماشت الصحيفة في تقريرها مع السجال الذي فجرته عملية القتل: “بالنسبة إلى البعض، فإنّ عملية القتل والتحقيق فيها والتغطية الإعلامية دليل على العنصرية البنيوية العميقة في المجتمع الدنماركي، فيما بالنسبة إلى آخرين لا يمكن إصدار أحكام مسبقة قبل تقديم جميع المعلومات”. وكانت معظم التقارير الصحافية تحاول الردّ على الانتقادات اللاذعة التي تفترض أنّه “لو كان الفاعل صاحب بشرة داكنة والقتيل أبيض، لكنّا أمام تغطية غير متوقفة عند حدّ”.
من جهتها، أعلنت السياسية اليسارية، مقررة شؤون الأجانب والدمج في حزب “اللائحة الموحدة”، روزا لوند، أنّ “عملية القتل تحطم القلب، وهي جريمة مفجعة للغاية. كلّ أفكاري تذهب إلى أقارب الرجل وأسرته، وهناك حاجة ماسة وكبيرة للتصرف حيال العنصرية”.
وفي التسريبات عن تحقيق الشرطة ما يزيد غضب من يعتقد أنّ الجريمة ارتكبت على أساس عنصري، وأنّ الشرطة تخفي عن قصد أنّها جريمة كراهية. تقول تقارير التحقيق الرسمية إنّه “يوم 23 يونيو/ حزيران، بين منتصف الليل والسادسة من صباح اليوم التالي، قتل الشاب البالغ من العمر 28 عاماً (مع إخفاء الاسم ومنع الصحافة من نشره) في منطقة نوردسكوفين. عملية القتل جرت بعدد من اللكمات على الوجه والجسد، وكسر في الفكّ، وضرب بزجاجة وكسر في الجمجمة وخنق بوضع الركبة على عنق الضحية ومحاولة حرق الجثة”.
الخنق بوضع الركبة هو ما أثار أيضاً حنق شباب دنماركيين من معارف الضحية، وسكوت وسائل الإعلام عن ذلك القتل قبل بدء تسريب تفاصيل مفجعة عن الجريمة، وتفاصيل عن خلفية أحد الجناة، وتأييده الحركة النازية في الشمال. وتلفت رسالة كتبت بالخط العريض مرفقة بباقة زهور في مكان الجريمة لتأكيد مضمونها: “علينا أن نتيقظ جميعاً وننتبه للحقيقة: نحن جميعاً نتحمل مسؤولية موتك، ومسؤولية تحقيق العدالة التي لم توجد بعد”. وتلك الرسالة جاءت تحت عنوان “حياة السود مهمة”. ووفقا لـ”بوليتيكن”، ترى هذه الحملة أنْ “ليست القضية أنّ هناك رائحة عنصرية، بل إنّ رائحتها نتنة ومقرفة”.
في الأيام القليلة الماضية استمرت القضية في التفاعل، مع إثارة قتل المهندس الخريج، مزيداً من النقاش حول العنصرية المبطنة في المجتمع الدنماركي.